ياسين الحافظ وزمن الانحطاط العربي ماذا بعد إعادة الاعتبار؟ منير درويش

ياسين الحافظ  وزمن الانحطاط العربي 

 ماذا بعد إعادة الاعتبار؟

منير درويش – دمشق

  منير دروبش  في الزمن العربي الرديء الذي يلف الأمة بكل ما فيها، يبرز دور الأشخاص الذين حاولوا أن يرسموا لها طريق التطور والنهضة دون أن يلتفت لهم أحد فخاب رجاؤهم ورحلوا وفي قلوبهم غصة بأن الشعب الذي كان عليه أن يتجه نحو الوعي المتقدم والمنفتح على الإبداع العالمي والتطور وأفكار الكواكبي ومحمد عبده وغيرهم اتجه بوعيه وسلوكه نحو داعش وأخواتها .

  ياسين الحافظ

 

 

 

 

                             الراحل ياسين الحافظ 

ياسين الحافظ الذي تمر الذكرى السنوية لوفاته 1930 – 28 / 10 / 1978  واحد من هؤلاء الذين بذلوا كل ما بوسعهم من أجل أهداف الوطن والأمة دون أن يقطف أي من ثمار هذا الجهد .

    لقد برز كواحد من رموز الثقافة والسياسة العربية، بل واختير بين مئة مثقف هم ابرز رموزها في القرن العشرين، وفق ما ذكرت إحدى  الصحف العالمية في بداية الألفية الثالثة . وحاز على هذا الاختيار ليس بسبب ثقافة عامة امتلكها الكثيرون، بل لأن ثقافته تجاوزت الوعي التقليدي للثقافة الرومانسية المتصالحة مع الواقع، إلى الثورية  السياسية التي تعمل على تغيير هذا الواقع، إذن هو وبخلاف محاولات بعض من رفاقه وأصدقائه الذين جعلوا منه مجرد بطل رواية أو قصة انتهى دوره بانتهائها، مثقف، دمج بين الثقافة والسياسة، على غير ما عرفته السياسات العربية، الأنظمة منها ومواليها والأحزاب والمنظمات والحركات  المعارضة لها، تلك الحركات التي اقتصرت ممارستها السياسية ونشاطها على نقد الحاكم والسلطة، وأهملت حركة المجتمع الذي أنتج هذا الحاكم، وهذه السلطة، وكانت في كل الأحوال متصالحة مع استبداده وديكتاتوريته إلا ما خلا من نقد سطحي وخجول. قراءاته الواسعة، منحته صفة المحلل في مجال الثقافة والسياسة، مدعماً بتجربة سياسية طويلة أرست مفهوماً للنقد واقعياً وموضوعياً .

     ياسين في نقده اللاعقلانية في السياسات العربية، لم يتناول سياسات الأنظمة فقط، وإن كانت في صلب توجهاته، لما مارسته من استبداد، وإلغاء للدولة، والمجتمع لتحل محله، هذه الأنظمة التي  بددت الموارد ونهبتها، وصادرت الحريات والعمل السياسي، بل تناول في نقده أيضاً تأخر المجتمعات العربية، التي خرجت منها هذه الأنظمة بوعيها المتأخر، ومباركتها لأعمالها أو صمتها عنها ، هذه المجتمعات، تحتقر الثقافة والمثقفين وتفتقر للفعل السياسي ، تقهر الفرد، والجماعات، وتضطهد الطفل، والمرأة، وتعود بوعيها إلى عصور الانحطاط، وترسم القوانين الاجتماعية، التي تنسجم مع هذا الوعي، وتقوم السلطة بصياغة هذه القوانين، بما يوافق مصالحها، ولا يثير غضب المجتمع، وهكذا، ينسجم القانون الاجتماعي بكل تخلفه مع القانون الوضعي للسلطة، مما عزز الانحدار، وزيف الوعي،  يقول ياسين الحافظ في وصفه لهذا الوضع ، "إن المجتمعات العربية تسير على حافة السكين، إما أن تتقدم وتنجو أو تسقط في الهاوية) ويبدو أنها اختارت الهاوية .

     هو ليس مثقف مرحلة، بل مؤسساً لمنهج يحلل الحاضر ويؤسس للمستقبل، وتصبح السلطة عنده نتاج المجتمع، استبدادها مستمد من تقاليده، وتغييرها يتطلب إجراء تغيرات فكرية وسياسية في هذا المجتمع .

     السياسات العربية بلا عقلانيتها عجزت عن الانخراط في الصراع الدولي بشكل فاعل، بقيت تابعة لهذا الطرف، أو ذاك، وتجاهلت قضايا أوطانها، ومشروعها النهضوي في تحرير الأرض، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية ، ياسين الحافظ يطرح استقلالية هذا المشروع عن الصراع الدولي، كي يمتلك العرب ميزان القوى الفاعل في هذا الصراع، من خلال ما يملكون من موارد، وإمكانيات مهدورة ومنهوبة، لكن السياسات العربية أهملت الدولة الوطنية الديمقراطية، وذهبت في محاولة للتهرب من هذا لاستحقاق نحو مشروع الوحدة، رغم أهميتها، في الوقت الذي عجزوا فيه عن إيجاد حد أدنى من التضامن أو الاتفاق على أي موقف يخدم هذا المشروع ، وكان من نتيجة إهمال الدولة الديمقراطية تصاعد الاستبداد، وتبديد الموارد ونهبها، وأصبح المواطن يعيش هاجس العيش اليومي الذي لا يحصل عليه إلا بشق النفس .

     الأحزاب السياسية، التي عايشها، أو عاش وعمل فيها، لم تلبي طموحاته الفكرية والسياسية، اكتشف مواطن الخلل في داخلها، حاول إصلاحها دون فائدة، لأن وعيها الفكري، وبنيتها التنظيمية، فضلاً عن تبعية بعضها، كما يذكر لم تكن مهيأة لمثل هذا الإصلاح، وهذا ما دفعه لنقدها نقداً شديداً، جر عليه كثير من المشاكل وتعرض لهجوم واسع من قبلها .

    في نقده للحزب الشيوعي السوري، الذي عمل فيه لفترة، قبل أن يتركه يقول: "ما كشف عنه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي، لم يلبث أن أثار أزمة ضمير في صفوف المثقفين الماركسيين في جميع أنحاء العالم، وفي سورية سرعان ما تملكني شعور بأنني ضحية مخدوعة، فطالبت عبثاً على أثرها بجملة من التصحيحات، وعلى رأسها دمقرطة العمل التنظيمي للحزب، ووضع نظام داخلي له، والكف عن عبادة الفرد وتقديس القيادات وفتح المجال أمام الإبداع وتطوير آليات العمل داخل الحزب." – (الأعمال الكاملة لياسين الحافظ – سيرة ذاتية لم تكتمل).

     أما عن العلاقة بين البعث والشيوعيين فيقول: " إن الصراع بينهم أشبه بصراع العشائر." نفس المصدر

    ومع الأسف، فإن أي من قيادات هذه الأحزاب، وأعضائها، لم يكلف نفسه عناء التفاعل مع هذا النقد سلباً أو إيجاباً، بل تعرض بسببه لهجوم واسع، ومنعت كتبه من القراءة أو أهملت، كما يؤكد السيد محمد دكروب، أحد ممثلي الحزب الشيوعي اللبناني، في مجلة الطريق العدد السادس كانون ثاني 1994 حيث يقول: "إن قراءة نقدية، لما عندنا من كتابات، ستكشف عن وجود البعض، وتحضرني هنا أسماء ياسين الحافظ، والياس مرقص، وأحمد صادق سعد مطمور تحت ركام الإهمال، والريبة، والنبذ، وسوء الفهم، وهي عوامل ناتجة بأكثرها عن عدم توافق هذه الإنجازات مع طروحات المركز".

    بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الحزب الشيوعي فيه، اتخذ جناح من الحزب الشيوعي السوري، في مؤتمره السابع 11 – 14 تشرين أول 1991،قراراً بإعادة الاعتبار، لكل من ياسين الحافظ والياس مرقص، وعبر السيد ظهير عبد الصمد في مقالته، دود الخل منه وفيه، عن هذا القرار بالقول: " إن من واجبنا كشيوعيين مخلصين لحزبنا، أن نطهر أنفسنا من أرجاس عبادة الفرد، وأن نعيد لهؤلاء الرفاق اعتبارهمن وفي ذلك  كسب للحزب، وقضية التقدم والديمقراطية، ( مجلة دراسات اشتراكية  العدد 119 لعام 1991 ) وإذا كان هذين المثقفين، يحتاجان للاعتذار، وليس لإعادة الاعتبار فقط، فإن قرار الحزب هذا، لم يجد أي مفعول له على أرض الواقع، حيث لم ينشر القرار مع قرارات الحزب، بل تضمنه فقط البلاغ الصادر عن أعمال المؤتمر، ولم تجمد القرارات التي اتخذت بحقهم، كقرار الفصل، الذي يبدو أنه كان موضع خلاف بين قيادة الحزب، حيث يذكر السيد خالد بكداش، الأمين العام للحزب، في كتابه (خالد بكداش يتحدث ص 127)، بأن خلافاً سياسيا حصل مع ياسين والياس، وهما الذين تركا الحزب، بينما يذكر ظهير عبد الصمد بأنهما فصلا،  (دراسات اشتراكية،) وفي اعتقادنا أن ياسين والياس تركا الحزب، لكنه وفق التقاليد التنظيمية في الأحزاب العقائدية، فإن الأعضاء الذين يتخلون عن الحزب، يتعرضون لقرار الفصل الذي تصدره قيادته، لا يعترف به وفق أسباب قد تكون وهمية تبرر هذا الفصل .

    سكن ياسين لبنان، وأحبه، لأنه تمتع فيه بالحرية، بعد أن خرج من سجن الاستبداد، الذي أمضى فيه عدة أشهرعام 1969، بسبب نقده لسلوك النظام، والمجتمع بعد هزيمة 1967، لكنه أحب سورية، ودرُتها دمشق، كما كان يسميها، خاصة وأن نصفه الآخر منها، وأوصى أن يدفن فيها، وهذا ما حص ، لكن دمشق، وكما يقول: "في الوقت الذي قابلت دمشق بالإعجاب والمحبة، لم أستطع أن أتخلص، ولفترة غير قصيرة، من موقف نقدي، واستعلائي، منبعث من رؤية نصف ريفية، ونصف بدوية، إزاء (الشوام)، إذ رأيت في لباقتهم، ونعومتهم، مظهراً من مظاهر الرخاوة والضعف، كما رأيت النافذة التي فتحت أمام الفتيات نوع من الميوعة، ورأيت في اعتدالهم بالإنفاق، وضبطهم الحساب، وربما عقلانيتهم، صورة من البخل أو حب المادة .

    عندما توفي ياسين عام 1978  كانت الحرب اللبنانية في أوجها، وتألم منها جداً، ونقدها، وهي نقطة في بحر من حروب العرب الحالية، ماذا لو عاش هذه الحروب، وخاصة الحرب العبثية في سورية، كم كان سيتألم؟ سؤال يمكن أن يجيب عليه كل مواطن وهو يعاني من ويلات هذه الحروب .