الياس مرقص وهواجس المستقبل بقلم منير درويش

الياس مرقص وهواجس المستقبل 

منير درويش

بعد غياب مضى عليه أكثر من عشرين عاماً لا زال المثقف العربي السوري الياس مرقص  واحداً من أبرز المثقفين في النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه .

هذا المثقف لم يعرف الصمت ، ولم يتوقف عن الكتابة والتأليف لأنه كان مدركاً أن العمر قصير وهو في سباق مع الزمن كي ينجز  مشروعه الفكري والسياسي الذي بدأه منذ أوائل شبابه ، حتى لا يفوته الوقت وتحرم الأجيال اللاحقة والحالية من جدوى وفائدة هذا المشروع ، لكنه لم يكن ليصمت لحظة واحدة مع محدثيه ، يطرح عليهم أفكاراً متزاحمة وينتقل بهم من فكرة لأخرى وكأنه يحاول أن يرسم من خلالها عناوين عامة يفسر  بعضها ويترك الباقي لتجيب  عنها الأجيال القادمة . لكن أفكاره هذه عميقة ومحددة أساسها حرية الفرد الإنسان ، المواطن ، الشعب ، الأمة ، أمته العربية وأمتنا أيضاً ، وكأنه على  خشية أو  معرفة أن هذه الأمة تغرق على يدي أبنائها في عالم من التهميش والنسيان الذي  لن يطول قدومه أمام انتماءات لأهلها أدنى بكثير مما هي فيه .

لكن في النهاية فعنوان أفكاره هذه هو الإصلاح من أجل مصلحة كل هذه المفردات  حتى لا تقع المصيبة بين هذه الانتماءات إما بفعل الخارج أو بتأثير الداخل فتخرب الوطن والأمة .في موازاة ذلك  حملت هذه الأفكار حرية العربي التي تعلمها  التلاميذ في الصفوف الأولى من مدرستهم أو في بيتهم " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " . وتعلموها شعراً " وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق " وإذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ( انظر كتابه، نقد العقلانية العربية ) هذه الأبيات كانت رمزاً وعنواناً لثورة الياسمين في تونس أولى الثورات العربية الحديثة ومفجرتها.

لكن الياس مرقص بشكه الديكارتي كان لديه هاجساً كبيراً ، من سيحمل مشروعه هذا ومن سيحميه ويعززه .

كنا نسير على شاطىء اللاذقية والساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل رغم برودة كانون الأول عام 1985 عندما توقف  ليقول :  لدي هواجس عدة تقلقني تتعلق بمستقبلي ومستقبل الأمة والشعب .

هاجسي الأول. أنني احسد ياسين الحافظ لأنه كان منتمياً لحزب ( حزب العمال الثوري العربي )، والحزب الآن تبنى منظومته الفكرية ويروج لها، بينما أنا لن أجد من يدافع عن مشروعي الفكري والسياسي الذي أسسته منذ بداية شبابي، ( كان ياسين قد توفي في 28 / 10 / 1978 ). لقد ألفت وأصدرت عدداً من الكتب والدراسات والترجمات وأخشى أن يأتي الوقت فلا أجد من يهتم بها بعد أن وضعت الأنظمة العربية شعوبنا في المستودعات وحرمتها من حرية الرأي والتعبير. أما عن الشباب ومنهم أولادي فهم الطاقة الجبارة في وطننا ويعيشون درجة متدهورة من الوعي  تحت أعتى أنواع  القهر السياسي والثقافي بسبب الاستبداد والديكتاتورية التي تمارسها أنظمة القمع في الوطن العربي وهو ما سيؤدي بهم للانفجار بكل تأكيد ، أنظر ما يحدث في (  الاتحاد السوفييتي ) بعد تولي غورباتشوف أمانة الحزب ، ما أن توفر لهؤلاء الشباب  هامشاً وإن محدوداً للتعبير عن الرأي كيف تحركوا   لدعم البيروسترويكا ، وكيف أخذوا بنقد  ورفض سلطة الحزب الواحد بعد مرور سبعين عاماً عليها إذ عجزت رغم الممارسات القمعية والإذلال من كبح  الطموحات الديمقراطية وبناء دولة تعددية . إن لدي إحساس بأن ما يقوم به غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي سيؤدي لتصحيح مسار الثورة وستكون له نتائج إيجابية على الثورة العالمية برمتها وأتمنى أن تطال هذه النتائج الوطن العربي الذي يعيش حالة سياسية لا يحسد عليها ،  لكن ذلك لن يحصل في فترة قصيرة ، وأخشى أل نكون شهوداً على هذا الإنجاز .

إن البرامج السياسية والثقافية التي أطلقتها الحركة السياسية العربية بكل توجهاتها لم تكن تلبي طموحات شبابنا وبقية فئات  الشعب  وبقيت معزولة عنهم وجعلتهم بالتالي غير معنيين بها وهذا ما سبب الانقطاع بينهم وبين هذه البرامج وإذا أضفنا  لها الاستبداد فإن ذلك سيؤدي بالتأكيد إلى ثورة قد لا يستطيع أحد  السيطرة عليها .

أثارتني هواجسه هذه ، كان  يعلم أنني أحد ابرز المسؤولين في  حزب العمال الثوري العربي و قد جئت إليه  حاملاً   عدداً من الأسئلة والمواضيع السياسية التي تواجهنا في عملنا اليومي وهي بحاجة لإيضاحات نعجز عن توضيحها ، وكنا غالباً ما نلجأ له في مثل هذه الحالات للإجابة عنها أو تفسيرها وتوضيحها وبينها عدد من المصطلحات والمفاهيم  الفلسفية والفكرية التي كان من أقدر الذين يستطيعون الإجابة عليها ، وإذا كانت هذه الردود قد أضيفت لتراث  الحزب إلا أنني أحتفظ ببعضها وهي بخط يده .

ورغم أن حيز الكلام الذي يعطيه لي كان محدوداً إلا أنني استطعت أن اسأله . لماذا لم تنتمي لحزبنا وهذا ما تمنيناه وكنا نرغبه دوماً ، وأنت الذي كانت لك مساهمات كبيرة في رسم برنامجه الفكري والتنظيمي إلى جانب الرفاق الآخرين وخاصة ياسين الحافظ وجورج طرابيشي ، الذي كان قد ساهم قبل ذلك في صياغة المباديء الأساسية  للنظام الداخلي ، كما أنك أنت الذي ساهم في صياغة العدد الأول من جريدة الثورة العربية التي صدرت قبل عشرين عاماً وتضمنت   نقدك لبرنامج الحزب الشيوعي السوري ، والمنهاج المرحلي للاتحاد  الاشتراكي  العربي في سورية ، وبرنامج عزيز الحاج في العراق .إلى جانب موضوعات أخرى

قال . أنا  لا انتمي لحزب لأني أريد أن أبقى حراً أكتب ما أريده أنا انطلاقاً من الواقع الذي أراه وأحلله دون تأثير من أحد ، وجودي في حزب سيملي علي التزامي ببرنامجه على حساب برنامجي  حتى لو التقى معه ، وعلي إن فكرت أن أفكر عن غيري ، وإن كتبت ، فعلي أن  أكتب وجهة نظر الآخرين وهي مهمة صعبة جداً وقد تكون على خلاف مع وجهة نظري ، جربتها في الحزب الشيوعي عندما كنت أنتمي إليه ، هذا فضلاً إلى انك لو رجعت لكتابي نظرية الحزب عند لينين والوضع العربي الراهن ، لوجدت أنني لم أجد أن الظروف مهيأة لنشوء حزب عربي فاعل في المرحلة الراهنة ، بل يجب العمل على تهيأتها دون أن يعني هذا انعدام هذه الفكرة في مستقبل قد تكون فيه الشروط أفضل . بقيت أتساءل  حقيقة لماذا لم ينتمي الياس لا لحزب البعث كما فعل ياسين قبل انتقاله لحزب العمال وجمال الأتاسي وهما من أكثر المقربين منه حاولوا مراراً معه ، قاموا بعد انقلاب 8 آذار في سورية  ، بتوفير زيارة له للعراق   للإطلاع على ( ثورته ) بعد انقلاب شباط 1963 ، لكنه خرج بانطباع ، أن مسار هذه الانقلابات  تسير باتجاه عدم الالتزام بمفهوم الحرية والاتجاه نحو الديكتاتورية والاستبداد ذلك لأن قياداتها  وبرامجهها لن تؤدي إلا إلى هذا المآل . وحذر وقتها من مغبة السقوط إذا ما استمرت على هذا النهج وهو ما كان . واختلط علي الأمر وأنا استعيد له مقالة كان قد نشرها بجريدة السفير بتاريخ 13 / 1 / 1979 يقول فيها   " حزب ياسين الحافظ ، أي الحزب الذي ينتمي إليه ياسين هو حزب كل إنسان وليس حزب النخبة أو حزب الوصاية على البشر ، إنه ضد التبعية والوصاية فالتجربة شاهدة على هذا الإتباع ، انتماؤنا لحزب الإنسان هو  ضد هذه التبعية وضد العبودية السلطانية ، أما الخلاص من استثمار الإنسان للإنسان وتحقيق المساواة فهو أمر نؤجله  ونتركه لأحفاد أحفادنا " . اعتقدت في البداية أنه يقصد بحزب ياسين، حزب بعينه لكنني أدركت أنه يشير إلى الانتماء الفكري لياسين الذي رافقه في مسيرته الفكرية الطويلة دون أن تفرق بينهما المواقف السياسية والانتماء الحزبي.

لقد انتمى الياس مرقص إلى ذلك الجيل المثقف الذي رسم الملامح الفكرية لثورة الإصلاح العربي وجاء  الآن دور الشباب الذين لم يسلموا من الانتقادات التي وجهها لهم هذا الجيل ، ليضعوا  وبتضحيات نادرة هذه الملامح موضع التنفيذ.