الملامح العامة لأزمة المعارضة السورية بقلم منير درويش

الملامح العامة لأزمة المعارضة السورية

منير درويش

منير دروبش

  إن دراسة واقع المعارضة السورية خلال العقود الخمسة الماضية، والتعقيدات المتشابكة للأزمة السورية  خلال تلك الفترة والانعكاسات السلبية  على مجمل الحياة السياسية  ،تدلل على أن المعارضة  تأثرت بهذه التعقيدات بصورة كبيرة   وخاصة  بعلاقتها مع النظام  الذي رسم لها خطوطاً محددة لا يمكنها تجاوزها دون تقديم تضحيات كبيرة . وهذه التعقيدات تبرز أيضاً ملامح الأزمة  العامة التي عاشتها ولا زالت تعيشها بصورة أكثر سلبية ومأساوية.

    لا يمكن رسم صورة المعارضة السورية (ونقصد المعارضة المدنية مجال معرفتنا) من خلال رموز يتصدرون شاشات التلفزة   والفضائيات وغرف الفنادق وقاعات المؤتمرات رغم أهمية بعضهم ،  كما أنها ليست بالصورة التي يقدمها بعض الذين أتاحت لهم بعض المواقع   فرصة التعبير فيها ، وليست  مجرد خريطة تظهر فيها بعض الفئات التي أفرزتها الأزمة الراهنة  والتي تستثني أولئك الذين ناضلوا بالكلمة والقلم ضد الظلم والقهر والفساد ، كما تستثني  تلك الكتلة الشعبية الواسعة  ومكوناتها المدنية  التي آثرت الصمت حتى تأتيها الفرصة المناسبة للتعبير والتي غابت عن برامج جميع الأطراف المعارضة كما غابت عن برامج النظام نفسه والتي لم تنخرط حتى الآن مع أي من الطرفين .

    وإذا كنا  نشير هنا إلى أننا لا نؤرخ للمعارضة السورية ، ولا نبريء أنفسنا من كل سلبياتها وأخطائها ، كما أننا لا نتناول  هنا مواقف النظام ، فإن المعارضة التقليدية ممثلة بالتجمع الوطني الديمقراطي 1979 بأحزابه الخمسة وشخصياته العامة ، وجماعة الأخوان المسلمين، وبعض القوى الأخرى بعضها  خرجت  من رحم النظام أو تعاونت معه قبل أن تنشق عنه ، فإن هذه المعارضة مارست دورها دون أي دعم عربي أو دولي وحتى داخلي وكانت بين المد والجذب بينها وبين النظام ، تعمل ضمن الخطوط المتاحة ، وانصبت مطالبها حول تغيير نهج النظام من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي مع  المطالبة بإلغاء بعض ببعض  القوانين الاستثنائية وإجراءا إصلاحات اقتصادية وإدارية  تحسن من أداء السلطة وتعالج بعض المطالب المعيشية للمواطنين   وفي كثير من الأوقات كانت تلجأ  إلى الإشادة بالسياسة الخارجية للنظام بما تحمله من شعارات (المقاومة والممانعة والدفاع عن القضية الفلسطينية ومقاومة المشاريع المعادية ..الخ) مع المطالبة بالتوازن بين السياستين الداخلية والخارجية على نظرية أنه لا يمكن حماية هذه السياسة إلا بسياسة داخلية تدعم هذه المواقف ، لكنها بذلك كانت تحمي نفسها . ولن نخفي أنها  استطاعت بنضالها وصمودها أن تمتلك بعضاً من الشرعية السياسية بينما عجزت عن امتلاك شرعية شعبية . وعندما حاول بعضها تجاوز هذه الخطوط كالأخوان  المسلمين الذين تبنوا شعار إسقاط النظام بالقوة وبدعم من أنظمة عربية لم تقل استبداداً عنه   تعرضوا لحملة عنيفة ووقع عليهم عسف القانون 49 الذي ينص على إعدام كل من ينتمي للجماعة والذي لا زال سارياً . كذلك أحزاب أخرى قدمت تضحيات كبيرة لم يوازيها الخط السياسي أو الفكري الذي تبنته .

    بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد 10 حزيران 2000 وعلى خلفية خطاب القسم، وجدت المعارضة فرصتها لتغيير تكتيكها وآلية عملها من العمل الحزبي المباشر إلى  انفتاح أكثر نحو الشعب ورفعت سقف الاحتجاج من خلال منظمات المجتمع المدني والأهلي، ومن خلال البيانات والعرائض، بيان ال99، ثم بيان الـ 1000  والعديد من العرائض والمطالب السياسية التي غابت عن سورية عقود طويلة، ثم الانفتاح من خلال المنتديات التي تشكلت في مختلف المدن وانخرط فيها عدد كبير من العاملين في السياسة وكثير من الذين ذاقوا مرارة السجون ومآسيها وكانت فرصتهم للتعبير عن هذه المآسي، وكان أبرز هذه المنتديات (منتدى الحوار الوطني) الذي أسسه رياض سيف في بيته وأغلق بعد عام ومن ثم (منتدى جمال الأتاسي)  والذي خضع لعملية شد ومد حتى تم إيقافه بعد عامين من انطلاقه .

     لقد أدت المنتديات إلى نوع من الاحتكاك المهادن بين المعارضة والسلطة جرت خلالها حوارات هادئة إلى حد ما بين الطرفين وهو ما سمي بربيع دمشق، قبل أن يتحول هذا الاحتكاك إلى حوارات صاخبة جعلت السلطة تنظر إليها بعين الريبة وتجد فيها تهديداً لمصلحتها خاصة وأن بعض أطراف المعارضة كانت قاصرة عن إدراك ماهية السلطة الأمنية وآلية حماية نفسها منها مع استمرار هذا الربيع وهكذا أوقفت السلطة هذا الربيع وتعرض كثير من شخصياته للاعتقال والسجن لفترات طويلة  .

     لم تتوقف الأمور عند توقف ربيع دمشق حيث أعلن عن تشكيل إعلان دمشق من التجمع الوطني الديمقراطي والأخوان المسلمين وأحزاب كردية وشخصيات عامة، لكنه انقسم عند عقد مجلسه المركزي الأول 1 / 12 / 2007 بعد أن انسحبت منه بعض أحزاب التجمع واعتقل مكتبه، كذلك إعلان بيروت – دمشق، دمشق – بيروت الذي وقعه عدد من المثقفين السورين واللبنانيين 12 / 5 / 2006 لتصحيح العلاقة بين لبنان وسورية وأدى لاعتقال عدد من الموقعين عليه وأمضى بعضهم 3 سنوات في السجون . وفي هذه الفترة انشق عن النظام عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية والذي أسس مع الأخوان المسلمين (جبهة الخلاص الوطني) قبل أن يجمدوا هجومهم على النظام بعد العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2009 بحجة مساندته لحماس، وبذلك اضطربت علاقتهم بأطراف المعارضة الأخرى .

 –           إن الملامح الأساسية لأزمة هذه المعارضة في تلك الفترة أنها ألفت استبداد النظام، تعلمت منه وعلمته وهي لم تستطع أن تخرج بسلوكها وآلياتها عن مرحلة العمل السري حتى في اللحظات التي أتيح لها فرصة ما من الانفتاح النسبي بحجة أنها لا تريد كشف كوادرها وتنظيمها .

 –          رغم نضالها الطويل وتضحياتها التي أكسبتها شرعية سياسية لكنها افتقدت للشرعية الشعبية بسبب تجاهلها للمجتمع وقواه وفئاته ومشاكله والتحولات التي تجري فيه واقتصر اهتمامها على النخبة السياسية التقليدية التي مارست السياسة وسط أحزاب يسارية أو علمانية وليبرالية وبعض الكتل الإسلامية، كما أعطت الأهمية للجانب القومي والعربي على حساب الجانب الوطني بكل ما يحمله من تعقيدات وتطلعات ورغبات فتجاهلت بذلك الخزان الشعبي الحقيقي وهو المجتمع بما يحتويه من إمكانيات وكفاءات تفوق ما لدى كل المعارضة والنظام لكنها لم تجد غايتها في أساليب وآليات وبرامج هذه المعارضة كما تجاهلت حقوق الأقليات ومشاكلهم وهجرتهم .

 –    لقد تبنت المعارضة الشعارات التي ترفعها النخبة كالحرية والديمقراطية وتجاهلت الأحداث المخفية التي كانت تحدث في المجتمع دون أن تكترث بها وخاصة تلك التي جرت بين الأعوام 2001 – و2005، الأحداث الاجتماعية والطائفية في مناطق مختلفة أو أحداث القامشلي عام 2004 والإضرابات التي قامت في عدة مناطق دون الإعلان عنها أو المطالبات بزيادة الأجور وغيرها وهي تعلم أن الإعلام الرسمي لن يتعرض لها، وإذا كانت قد تعرضت لبعضها على صفحات صحفها الداخلية المتباعدة الصدور، فقد تم ذلك بالطرق الرومانسية  معتمدة بذلك على (الإشادة بوعي الشعب السوري وتماسكه) متخذة دور الأستاذ في المعالجة، بدل أن تبذل جهوداً بالاتصال للوقوف على هذه الأحداث ومسبباتها وطرق معالجتها والتواصل مع الفعاليات المؤثرة فيها، هذا إذا استثنينا حراكها الأساسي الذي ظهر جلياً في الوقوف أمام محاكم أمن الدولة والمحاكم المدنية أثناء محاكمة بعض المعتقلين  وغالباً ما كانت تتعرض لبعض المضايقات من رجال الأمن قبل انفضاضها.

 –         أهملت الدراسات والأبحاث الميدانية في مجال الاقتصاد والتجارة والمجتمع واستقصاءات الرأي ورسم سياسات إستراتيجية وفق هذه الدراسات  تجعل منها حكومة ظل قادرة على تصحيح الأخطاء وفق منهج علمي لا شعوري تخميني، من هنا فإن ما كانت تقدمه صحف النظام وإعلامه من نقد للأداء الحكومة لإظهار اهتمامها، يفوق ما كانت تقدمه المعارضة بكثير رغم الاختلاف بالأهداف .

         – عندما انطلقت الاحتجاجات … الثورة … لم تتوقع المعارضة أنها ستتصاعد على النحو الذي وصلت له وهذا ما جعلها تتخبط بل واستخف بعضها بالأحدث ووجدت أنها مجرد احتجاجات لا بد أن تخمد إما ببعض الإصلاحات أو بالعنف السلطوي، إلا أن تصاعد الاحتجاجات غير الصورة ودفع قوى المعارضة وجلها من المعارضة التقليدية إلى مرجعة حساباتها ومحاولة ملاقاة توجهات الشباب هؤلاء، فتشكلت هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي التي أعلن عنها في 30 / 6 / 2011، من التجمع الوطني الديمقراطي وبعض أطراف إعلان دمشق وأحزاب كردية وشخصيات سياسية واجتماعية يسارية وعلمانية وإسلامية وعقدت مؤتمرها الأول في أيلول من نفس العام ، لكن سرعان ما غادرها أحزاب وكوادر أساسية ليتشكل من بعضها المجلس الوطني السوري أيلول، 2011 ، بينما كانت تتشكل من كوادر الثورة  مجموعات في الداخل والخارج  كالحركة الشعبية للتغيير في سورية وحركة الحرية والتضامن الوطني وحزب الوسط السوري والائتلاف الوطني لشباب الثورة بالإضافة إلى أحزاب كردية وشخصيات شبابية وعشائرية وعدد من المدونين البارعين، وقد عقدت هذه المجموعات مؤتمراً لها في بروكسل 4 – 5 حزيران 2011 (أنظر كتاب جمال باروت – العقد الأخير في تاريخ سورية  ص .352)

     وهكذا بدأت تنمو وتتعدد تشكيلات المعارضة وفصائلها باسم الثورة ومن أجلها وكلها تدعي أنها تحمل أهدافها وبلغ عددها حداً يجعل من يفكر بإنشاء أي تشكيل سيعجز عن إيجاد اسم له بعد أن حجزت كل الأسماء ولم تكن هذه الظاهرة سلبية لو لا سلبية الأسلوب والوسيلة التي اتبعتها هذه الفصائل باسم الثورة والتي لا تخلو من صراعات لا مبرر لها ففي الوقت الذي كان عليها أن تتعامل مع ثورة حقيقية أرادت أن تحقق مطالبها بوسائل سلمية ، تأثر بعضها بالماضي بينما حاول بعضها أن يستأثر بالمستقبل سلفاً .

 –         منذ البداية أعلنت المعارضة أنها لا تمثل حركة الشارع ولم يكن لها أي دور أو تأثير على انطلاقها ، رغم أنها ساهمت في تجمع الحريقة كأول احتجاج للمعارضة وكذلك التجمع النسائي أمام وزارة الداخلية وغيرها، وبهذا كانت تهرب إلى الأمام وتتخلى عن نضالها الطويل وشعاراتها ودورها في تكوين الوعي الفكري لشباب الاحتجاجات، وهكذا أراحت نفسها من تحمل المسؤولية المباشرة وأفرغت المكان للقوى التي وجدت فرصتها  لتحمل المسؤولية كما أراحت النظام من مواجهتها نظرا لتاريخها المشهود والموصوف  وأتاحت له الفرصة لتوجيه اتهامات شتى  لشباب الثورة واتهامهم  (بالجهادية، والسلفية، وحكم الإمارات) كما حرمت هؤلاء الشباب من خبرتها السياسية ،  لقد عبر أحد رموز المعارضة عن موقفها هذا بالقول (إننا نقف على الرصيف نتفرج على هذا الصراع دون أن نفعل فيه).

 –         لا شك أن الاستبداد والغياب الطويل للعمل السياسي كانا من العوامل التي جعلت المعارضة تعجز عن رسم خطة إستراتيجية لقيادة الثورة إلا أن الفترة الزمنية التي زادت عن عامين كانت كافية للتحرر من هذا العجز لولا سعي بعض أطرافها للحصول على مكاسب شخصية أو حزبية ضيقة على حساب الثورة وكان بعضهم من شخصيات وعائلات مشاركة في السلطة لفترة طويلة قبل أن تتخلى عنها، ولعب رأس المال دوره أيضاً وانبرى كبار الرأسماليين الذين استفاد بعضهم من وجوده في السلطة داخل وخارج سورية لتحويل مواقع  إعلامية ومشاريع سياسية ومحطات وتكتلات تعمل بصفة معارضة ولكن لها أهداف أخرى، وهذا ما كان له  كان له دور بارز في المثالب والعثرات  التي وقعت فيها  الثورة ، كما كانت من العوامل الهامة للتدخل السياسي الخارجي في مسارها .

 –        التخبط في الرؤية السياسية الواقعية التي تعتمد على دراسة الواقع كما هو وليس من خلال الشعارات النضالية والمشاعر والرغبات، إن التخبط في هذه الرؤية بين من رأى  في شعار إسقاط النظام بأي شكل حتى لو بالتدخل الخارجي المدمر للبلد، والذي لم يكن متاحاً أصلاً، وبين من رأى أن تغيير النظام هو التعبير القانوني والحقوقي الذي يؤدي إلى الانتقال للنظام الديمقراطي التعددي والذي لم يكن الوصول إليه سهلاً أيضاً، هذه الشعارات لم تبقى في إطار الحوار بين أطرافها بل كانت سبباً  للانقسام والفرقة .

 –         الخلط بين التكتلات التنظيمية والأهداف. جميع التنظيمات كان هدفها الدولة المدنية الديمقراطية لكن الصراعات التنظيمية والتكتلات والبحث عن المواقع حال دونها ودون وضع الآليات للوصول إلى هذا الهدف، وحول المعارضة إلى وحدات متفرقة و مختلفة ومتصارعة ، وهناك أمثلة عديدة أبرزها اتفاق الدوحة بين الهيئة والمجلس الوطني كانون الثاني 2012 والذي أجهض بعد توقيعه مباشرة، واتفاق مؤتمر المعارضة بالقاهرة في 2 – 3 تموز 2012 وغيرها الكثير. دون أن تعرف الأسباب الحقيقية لهذه الفرقة ضمن الهدف الواحد .

 –   تجاهلها للمجتمع الذي كان عليها أصلاً أن توجه اهتمامها نحو  قواه الصامتة أو المحايدة، إنه الخزان الذي يمنحها القوة والفعالية ولكن كيف يمكنها ذلك إذا كان بعضها لا يعرف تماما ما هية هذا المجتمع وآلية الفعل فيه.

 –       حملات التشكيك والتخوين بين أطرافها التي ظهرت منذ البدايات، أولها الحملات و المواقف المتضاربة من مؤتمر السمير أميس تموز 2011 الذي ضم معارضين لهم وجهات نظر معينة ، ومؤتمرا ت هيئة التنسيق، إلى جميع اللقاءات والمؤتمرات الأخرى سواء التي عقدت في الداخل أو الخارج و التي لم تخلو من هذه الحملات. وغالباً ما تأتي هذه الحملات من عناصر ومجموعات كان لها دور قيادي في أوساط المعارضة بل ولعبت دوراً بارزاً في تشكيلها .

             إن هذه ليست كل ملامح أزمة المعارضة السورية لكنها مؤشرات على هذه الأزمة وطرحها لا يقصد به التشكيك والتهرب من مسؤولية نتحملها جميعنا لكنها دعوة لإعادة النظر بالآليات والأساليب التي لن يكون تجاوزها  لمصلحة المعارضة بل لمصلحة الوطن