أمير ميكافيللي وقوة القانون جاك جوزيف أوسي

أمير ميكافيللي وقوة القانون

جاك جوزيف أوسي

   Jack pic قد تكون سيرة الراهب الدومينيكاني سافونا رولا مثالاً ساطعاً على سيرة رجل قضى في سبيل مبادئه التي آمن بها ونذر نفسه في سبيلها، وهي خير دليل على أن النوايا الطيبة والغايات المثالية إن لم تستند إلى قوة تفرض القانون وتنظّم المجتمع على أسس واضحة ومتينة، ستؤدي بصاحبها إلى التهلكة. لأن طبيعة الشعوب تختلف وتتغير بمرور الوقت، وقد يكون من السهل أن تقنع الشعب بأمر من الأمور، ولكن من العسير جداً إبقائه على هذا الرأي، وخاصة عندما تتغير الظروف لغير صالحك, أو يميل ميزان القوة لغيرك، لأن الارتياب من غرائز الإنسان الذي لا يستطيع الاعتقاد بصحة شيء من الأشياء إلّا إذا رأى النتيجة بعينه، ولمسها بيده، حسب ما انتهى إليه ميكافيللي في كتابه الأمير.

وانطلاقاً من النهاية المأساوية التي انتهى إليها الراهب رولا إعداماً حرقاً كما يحدث للهراطقة في العصور الوسطى، بنى مكيافيللي رؤيته حول النبي المسلّح داعماً رأيه بعدة شواهد تاريخية، بدأً من النبي موسى وحتى عصر قيصر بورجيا الذي يعتبره المثال الأعلى لمن يريد أن يصل إلى مراكز القوة وصنع القرار معتمداً على صفات الغدر والخيانة تارة، وفضائل الكرم والرحمة تارة أخرى، مقدماً مثال جيرون السرقسطي، الذي صار ملكاً بعد أن كان من أفراد الرعية، ولم يساعده في الوصول إلى العرش إلًا أخلاقه العالية و فضائله الكاملة، فألتف حوله المظلومون والمضطهدون والمهمشون وانتخبوه رئيساً لهم، ولما وصل إلى العرش بسواعد أنصاره عمل على تشتيت شملهم، وأسس قوات من غيرهم، وتخلى عن أصدقائه، وغيّر خلانه، مؤسساً ملكه على أسس متينه، فتعب في البداية كثيراً لكنه استطاع الدفاع عن ملكه فيما بعد بسهولة.

ففي سبيل داعي المصلحة العليا ” للأمير أو للدولة ” ضحّى ميكافيللي بالأخلاق في سبيل البقاء في السلطة ” فمن الضروري للأمير، إذا أراد البقاء على سدة العرش، أن يتعلم القدرة على ألّا يكون صالحاً، وعلى ممارسة ذلك أو عدم ممارسته تبعاً للضرورة ” مؤسساً للقاعدة التي سيتبعها الكثيرين وهي ” الديموقراطية تتوقف عندما تبدأ مصلحة الدولة العليا “. وما سوف تجر تلك القاعدة من مأسي عبر العصور حيث اختلطت مصلحة الدولة بمصلحة القائمين عليها بسبب عدم وجود قوانين تحدد وتوضح حدود العلاقة بين الدولة كمؤسسة والقائمين على إدارة هذه المؤسسة. ولمّا كانت المصلحة العليا تستعمل دائماً في حالة الظروف الاستثنائية التي تستوجب القتال دفاعاً عن النفس حيث تندمج شخصية الأمير بالدولة، فنحن أمام طريقتين للقتال : طريقة الإنسان، وطريقة الحيوان، كما وضّح ميشيل سينيلار في كتابه الماكيافيلية وداعي المصلحة العليا.

وحيث أن الطرق الإنسانية لا تكون كافية دائماً، يتم اللجوء إلى طريقة الحيوان، حيث يجب على الأمير أن يمثّل الشخصيتين ببراعة. ولمّا كانت الأخلاق تتطلب الفصل بينهما، كانت السياسة تريد الجمع بينهما، فبدلاً من استبعاد العنف الحيواني بواسطة القوانين، استمدت من هذا العنف وسائل السيطرة على المجتمع، وبدلاً من وضع قانون يرسي إطار سلطة عادلة، جرى اختزاله إلى أداة من أدوات الأمير في فرض سطوته على المجتمع .

لهذا انقلبت الثورة الفرنسية إلى إرهاب يجّز رقاب الناس لأن القائمين عليها رفعوا شعارات و مفاهيم أخلاقية، فضفاضة ورومانسية : كالحرية، والعدالة، والمساواة، والإخاء … ألخ دون تقنين لها فساد “ قانون الاشتباه ” المستمد من داعي المصلحة العليا في الحفاظ على الثورة ومكتسباتها، فبدأت المقصلة تحصد رقاب الذين لم يوافقوا على الإعدام، ثم المعارضة أياً كانت، ثم المشتبه في إنهم معارضة، ثم المحتمل أن يكونوا معارضة وغرقت فرنسا في بحر من الدماء، خلال عصر إرهار روبرسبير …! والسبب هو استخدام مفاهيم أخلاقية في مجال السياسية الذي كانت يجب أن تسوده القوانين، كما أضح ذلك إمام عبد الفتاح إمام في كتابه الأخلاق و السياسة … دراسة في فلسفة الحكم .

هذا التداخل في المفاهيم بين الأخلاقي الذي يجب أن يعالج ما نطمح إليه، وما يجب أن يكون، والسياسي الذي يتعامل مع الواقع ومشاكله وهمومه وتعقيداته، وبسبب عدم وجود قوانين واضحة تضبط السلوك لجميع أفراد المجتمع وفي أي موقع كانوا فيه، سمح للمغامرين بركوب غمار الحركات الثورية في المجتمع، وتوجيه دفة الأمور لمصلحتهم لبناء مجد شخصي، وطموح ذاتي، ولنا في سيرة نابليون بونابرت خير دليل على مسيرة مهاجر كورسيكي أصبح امبراطوراً لكل الفرنسيين .

جاك جوزيف أوسي

jackaussi@hotmail.com